فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أبي بن كعب كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة، وكل شيء في القرآن من الريح فهو عذاب.
وقيل: لأن الرياح جمع وهي الجنوب والشمال والصبا لأنها لواقح، والعذاب ريح واحدة وهي الدبور لأنها لا تلقح.
{بُشْرًا} قرئت بالنون وبالباء فمن قرأ بالنون ففيه وجهان:
أحدهما: أنه نشر السحاب حتى يمطر.
الثاني: حياة لخلقه كحياتهم بالنشور.
ومن قرأ {بُشْرًا} بالباء ففيه وجهان:
أحدهما لأنها بشرى بالمطر.
الثاني: لأن الناس يستبشرون بها.
{بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} يعني المطر لأنه رحمة من الله لخلقه، وتأوله بعض أصحاب الخواطر يرسل رياح الندم بين يدي التوبة.
{وَأَنزَلْنَا السَّمِاءِ مَاءً طَهُورًا} فيه تأويلان:
أحدهما: طاهرًا، قاله أبو حنيفة ولذلك جوز إزالة النجاسات بالمائعات الطاهرات.
الثاني: مطهرًا، قاله الشافعي ولذلك لم يجوز إزالة النجاسة بمائع سوى الماء.
{لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا} وهي التي لا عمارة فيها ولا زرع، وإحياؤها يكون بنبات زرعها وشجرها، فكما أن الماء يطهر الأبدان من الأحداث والأنجاس، كذلك الماء يطهر الأرض من القحط والجدب.
{وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنآ أَنْعَامًا وَأنَاسِيَّ كَثِيرًا} فجمع بالماء حياة النبات والحيوان وفي الأناسي وجهان:
أحدهما: أنه جمع إنسي.
الثاني: جمع إنسان.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه الفرقان المذكور في أول السورة.
الثاني: أراد الماء الذي أنزله طهورًا.
وفيه وجهان:
أحدهما: يعني قسمنا المطر فلا يدوم على مكان، فيهلك ولا ينقطع عن مكان، فيهلك، وهو معنى قول قتادة.
الثاني: أنه يصرفه في كل عام من مكان إلى مكان، قال ابن عباس ليس عام بأمطر من عام، ولكن الله يصرفه بين عباده.
{لِيَذَّكَّرُوا} يحتمل وجهين:
أحدهما: ليتذكروا النعمة بنزوله.
الثاني: ليتذكروا النعمة بانقطاعه.
{فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسَ إِلاَّ كُفُورًا} قال عكرمة: هو قولهم مطرنا بالأنواء. روى الربيع بن صبيح قال: أمطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَصْبَحَ النَّاسُ فِيهَا بَيْنَ رَجْلَينِ شَاكِرٍ وَكَافِرٍ، فَأَمَّا الشَّاكِرُ فَيحْمِدُ اللَّهَ عَلَى سُقْياهُ وَغِيَاثِهِ وَأَمَّا الكَافِرُ فَيقُولُ مطرنَا بِنَوءِ كَذَا وَكَذَا».
قوله تعالى: {فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ}.
يعني إلى ما يدعونك إليه: إما من تعظيم آلهتهم، وإما من موادعتهم.
{وَجَاهِدْهُم بِهِ} فيه وجهان:
أحدهما: بالقرآن.
الثاني: بالإِسلام.
{جِهَادًا كَبِيرًا} فيه وجهان:
أحدهما: بالسيف.
الثاني: بالغلظة. اهـ.

.قال ابن عطية:

قال الطبري ووصف {الليل} باللباس تشبيهًا من حيث يستر الأشياء ويغشاها، والسبات ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضًا، فشبه النائم به، والسبت الإقامة في المكان فكأن السبات سكون ما وثبوت عليه، والنشور في هذا الموضع الإحياء شبه اليقظة به ليتطابق الإحياء مع الإماتة والتوفي اللذين يتضمنهما النوم والسبات ويحتمل أن يريد بالنشور وقت انتشار وتفرق لطلب المعايش وابتغاء فضل الله، وقوله: {النهار نشورًا} وما قبله من باب ليل نائم ونهار صائم.
{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}.
قرأت فرقة {الرياح}، وقرأت فرقة {الريح} على الجنس، فهي بمعنى الرياح وقد نسبنا القراءة في سورة الأعراف وقراءة الجمع أوجه لأن عرف الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب، ومتى كانت للمطر والرحمة فإنما هي رياح، لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب وتتفرق وتأتي لينة من ها هنا وها هنا، وشيئًا إثر شيء، وريح العذاب خرجت لا تتداءب وإنما تأتي جسدًا واحدًا، ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه، قال الرماني جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح الجنوب والصبا والشمال وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور.
قال القاضي أبو محمد: يرد على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا هبت الريح اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا، واختلف القراء في النشر، في النون والباء وغير ذلك اختلافًا قد ذكرناه في سورة الأعراف، و{نشرًا} معناه منتشرة متفرقة والطهور بناء مبالغة في طاهر وهذه المبالغة اقتضته في ماء السماء وفي كل ما هو منه وبسبيله أن يكون طاهرًا مطهرًا وفيما كثرت فيه التغايير، كماء الورد وعصير العنب أن يكون طاهرًا ولا مطهرًا، ووصف البلدة ب الميت لأنه جعله كالمصدر الذي يوصف به المذكر والمؤمنث وجاز ذلك من حيث البلدة بمعنى البلد، وقرأ طلحة بن مصرف {لننشىء به بلدة ونُسقيه} بضم النون وهي قراءة الجمهور ومعناه نجعله لهم سقيًا، هذا قول بعض اللغويين في أسقى قالوا وسقى معناه للشفة، وقال الجمهور سقى وأسقى بمعنى واحد وينشد على ذلك بيت لبيد: الوافر:
سقى قومي بني نجد وأسقى ** نميرًا والقبائل من هلال

وقرأ أبو عمرو {ونَسقيه} بفتح النون وهي قراءة ابن مسعود وابن أبي عبلة وأبي حيوة، ورويت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، {وأناسيٌ}، قيل هو جمع إنسان والياء المشددة بدل من النون في الواحد قاله سيبويه، وقال المبرد هو جمع إنسي وكان القياس أن يكون أناسية كما قالوا في مهلبي ومهالبة، وحكى الطبري عن بعض اللغويين في جمع إنسان إناسين بالنون كسرحان وبستان، وقرأ يحيى بن الحارث {أناسي} بتخفيف الياء، والضمير في {صرفناه} قال ابن عباس ومجاهد هو عائد على الماء المنزل من السماء، المعنى أن الله تعالى جعل إنزال الماء تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض المواضع وهذا كله في كل عام بمقدار واحد، وقاله ابن مسعود، وقوله على هذا التأويل {فأبى أكثر الناس إلا كفورًا} أي في قولهم بالأنواء والكواكب قاله عكرمة، وقيل {كفورًا} على الإطلاق لما تركوا التذكر، وقال ابن عباس الضمير في {صرفناه} للقرآن وإن كان لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر ويعضد ذلك قوله بعد ذلك، {وجاهدهم به}، وعلى التأويل الأول الضمير في {به} يراد به القرآن على نحو ما ذكرناه، وقال ابن زيد يراد به الإِسلام، وقرأ عكرمة {صرَفنا} بتخفيف الراء، وقرأ حمزة والكسائي والكوفيون {ليذْكروا} بسكون الذال، وقرأ الباقون {ليذكّروا} بشد الذال والكاف، وفي قوله: {ولو شئنا} الآية اقتضاب يدل عليه ما ذكر تقديره ولكنا أفردناك بالنذارة وحملناك {فلا تطع الكافرين}. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وهو الذي جعل لكم الليل لِبَاسًا}.
أي: ساترًا بظلمته، لأن ظلمته تغشى الأشخاص وتَشتمل عليها اشتمال اللباس على لابسه {والنَّومَ سُبَاتًا} قال ابن قتيبة: أي: راحة، ومنه يوم السبت، لأن الخلق اجتمع يوم الجمعة، وكان الفراغ منه في يوم السبت، فقيل لبني إِسرائيل: استريحوا في هذا اليوم ولا تعملوا فيه شيئًا، فسمِي يوم السبت، أي: يوم الراحة، وأصل السبت: التَّمدُّد، ومن تمدَّد استراح.
وقال ابن الأنباري: أصل السبت: القَطْع؛ فالمعنى: وجعلنا النوم قَطْعًا لأعمالكم.
قوله تعالى: {وجَعَلَ النَّهارَ نُشورًا} فيه قولان:
أحدهما: تنتشرون فيه لابتغاء الرزق، قاله ابن عباس.
والثاني: تُنشَر الرُّوح باليقظة كما تنشر بالبعث، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: {وهو الذي أرسل الرِّياح} قد شرحناه في [الأعراف: 57] إِلى قوله: {وأنزلْنا من السماء ماءً طَهُورًا} يعني: المطر.
قال الأزهري: الطَّهُور في اللغة: الطاهر المُطهِّر.
والطَّهور ما يُتَطَهَّر به، كالوَضوء الذي يُتَوضَّأُ به، والفَطُور الذي يُفْطَر عليه.
قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ به بلدةً مَيْتًا} وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو جعفر: {مَيِّتًا} بالتشديد.
قال الزجاج: لفظ البلدة مؤنَّث، وإِنما قيل: {ميتًا} لأن معنى البلدة والبلد سواء.
وقال غيره: إِنما قال: {ميتًا}، لأنه أراد بالبلدة المكان.
وقد سبق معنى صفة البلدة بالموت [الأعراف: 57] ومعنى {ونُسْقِيَهُ} [الحجر: 24].
وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، والضحاك، والأعمش، وابن أبي عبلة: {ونَسْقِيَهُ} بفتح النون.
فأما الأناسيُّ، فقال الزجاج: هو جمع إِنسيّ، مثل كرسيّ وكراسي؛ ويجوز أن يكون جمع إِنسان، وتكون الباء بدلًا من النون، الأصل: أناسين مثل سَراحين.
وقرأ أبو مجلز، والضحاك، وأبو العالية، وعاصم الجحدري {وأناسيَ} بتخفيف الياء.
قوله تعالى: {ولقد صَرَّفْناه} يعني المطر {بينهم} مرة لهذه البلدة، ومرة لهذه {لِيَذَّكَّروا} أي: ليتفكَّروا في نِعَم الله عليهم فيحمدوه.
وقرأ حمزة، والكسائي: {لِيَذْكُروا} خفيفة الذال.
قال أبو علي: يَذَّكَّر في معنى يتذكَّر، {فأبى أكثرُ الناس إِلا كُفُورًا} وهم الذين يقولون: مُطِرنا بنوء كذا وكذا، كفروا بنعمة الله.
{ولو شئنا لَبَعَثْنَا في كل قرية نذيرًا} المعنى: إِنّا بعثناك إِلى جميع القُرى لعِظَم كرامتك، {فلا تُطِعِ الكافرِين}، وذلك أن كفار مكة دَعَوه إِلى دين آبائهم، {وجاهِدهم به} أي بالقرآن {جهادًا كبيرًا} أي: تامًّا شديدًا. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)}.
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاسًا} يعني سترًا للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن.
قال الطبري: وصف الليل باللباس تشبيهًا من حيث يستر الأشياء ويغشاها.
الثانية: قال ابن العربيّ: ظن بعض الغُفْلَة أن من صلّى عريانًا في الظلام أنه يجزئه؛ لأن الليل لباس.
وهذا يوجب أن يصلّي في بيته عريانًا إذا أغلق عليه بابه.
والستر في الصلاة عبادة تختص بها ليست لأجل نظر الناس.
ولا حاجة إلى الإطناب في هذا.
الثالثة: قوله تعالى: {والنوم سُبَاتًا} أي راحة لأبدانكم بانقطاعكم عن الأشغال.
وأصل السبات من التمدد.
يقال: سبتت المرأة شعرها أي نقضته وأرسلته.
ورجل مسبوت أي ممدود الخلقة.
وقيل: للنوم سبات لأنه بالتمدد يكون، وفي التمدد معنى الراحة.
وقيل: السبت القطع؛ فالنوم انقطاع عن الاشتغال؛ ومنه سَبَتَ اليهودُ لانقطاعهم عن الأعمال فيه.